تفاحة بيكاسو كيف يمكن توظيف النظريات العلمية في الفن ?

تفاحة بيكاسو كيف يمكن توظيف النظريات العلمية في الفن ?
مرة ,رسم بيكاسو تفاحة كاملة غير مشطورة ,غير أن بذورها تبين منثورة فوق القشرة الخارجية للتفاحة .ماذا فعل الفنان هنا? لقد رسم البعد الرابع ,أي الزمن ,الزمن يمتزج بأبعاد الكون الثلاثة المعروفة التي تحدد أحجام كل المجسمات فوق الأرض »الطول - العرض – العمق
« فتتكون الوشيجة رباعية الأبعاد ,وهي القياس الأدق للموجودات ,حتى ولو لم يستطع العقل البشري إدراك كيفية أن يكون الزمن بعداً كالطول والعرض فيزيقيا بحواسه الخمس ,هذا البعد غير المرئي اكتشفه العالم الرياضي الفيزيائي البرت أينشتين قبل أكثر من قرن وبنى عليه نظريتيه الفارقتين النسبية العامة والنسبية الخاصة .‏
هاتان النظريتان اللتان ساهمتا في تفسير العديد من الظواهر الكونية الغامضة التي عجزت بعض قوانين نيوتن عن تفسيرها حينذاك ,لاسيما خارج كوكب الأرض ,أعني فيما يخص عالم الفلك وعلوم المجرات .‏
رفض آينشتين أن يستسلم لفكرة أن الكون يتحدد بطوله وعرضه وارتفاعه لأن تلك الأطوال نسبية تختلف من مكان لمكان كماأن كتلة الجسم تتغير تبعاً لسرعته ,وأعلن أن لاشيء مطلقاً في الوجود بأسره سوى سرعة الضوء وكل ماعداها نسبي بامتياز .تلك النظرية العلمية تحديداً لم تركن قانعة في خانة العلم وحده ,بل تجاوزت موقعها الى كل خانات معارف الحياة وهذا هو سر عبقريتها .وظف مفهوم النسبية في الفلسفة والأدب والفن والنحت والعمارة والتشكيل على أنحاء مختلفة ونهل منها كل العلماء والتطبيقيون والفنانون فأخرجوا فناً مغايراً لما قبل ظهور هذا الاكتشاف المذهل والمربك للعالم وقتها.ومن هنا لم تتجلَّ آثار النسبية على العلم والحياة وحسب ,لكن كثيراً من المبدعين قد وظفوها لإثراء أعمالهم وإنتاج قطع فنية أكثر تصالحاً مع الكون ومفرداته وأكثر إبهاراً للمخيال المتلقى للعمل.‏
رسم بيكاسو التفاحة في حالتيها قبل وبعد شطرها بالسكين ,بغير الحاجة الى رسمها مرتين وبغير الحاجة الى رسم سكين ,وبغير اللجوء الى رسمها مشطورة .رسمها كاملة ثم نثر البذور على سطحها ليقوم عقل المتلقي بتفكيك الصورة وإعادة بنائها ذهنياً ,ومن ثم يبرز البعد الرابع وهو الزمن المستغرق في شطر التفاحة الى نصفين ومن ثم ظهور البذور .‏
الفنان هنا حاول رسم الزمن وهو قيمة لامتعينة ,أو بعد غير مرئي غير محسوس ,أي لايمكن القبض عليه عن طريق الرؤية أو اللمس أو السمع ,غير أنه ممكن إدراكه بالذهن والمدرسة التكعيبية ,التي بيكاسو أحد روادها بشقيها التسطيحي والتجسيمي ,تذهب الى تحويل كافة الموجودات الى مستطيلات ومربعات ومثلثات وأنصاف دوائر ,أو الى مكعبات واسطوانات ومخروطات الخ .أي محاولة التقاط المعادل الهندسي للهدف عوضاً عن نقله من الواقع بحياد? مافعل التأثيريون مثلاً ,ومن ثم يمكن رؤية جوانب عدة لهدف مرسوم في لوحة تكعيبية بنظرة واحدة دون الحاجة الى لف الهدف أو الالتفاف حوله .وعلى هذا فقد ترى بروفيل امرأة تظهر به عيناها في حين يجب أن تظهر عين واحدة فقط في هذا الوضع الجانبي ,كما نرى مثلاً في لوحة دورامار والقطة التي بيعت مؤخراً بخمسة وتسعين مليون دولار وهي إحدى اللوحات الكثيرة التي رسمها بيكاسو لحبيبته الحسناء دورامار ,ولوحة أخرى تظهر فيها عينا الرجل في لقطة جانبية لايمكن أن تتأتى إلا بدوران وجه الرجل ,ثم دمج الوضعين معاً في لقطة واحدة ,أما ذراعه التي تحمل الفرشاة فكأنها اليسرى في حين وضع الأصابع القابضة على الفرشاة لايمكن إلا أن يكون للكف اليمنى ,وكأن الرجل يبدّل الفرشاة بين يده اليمنى واليسرى . وهي تيمة اللعب بالزمن كما يفعل الشعراء في قصائدهم .‏
أما المدرسة المستقبلية 1009 - 1926 التي نشأت في روما على نحو مواز للتكعيبية في باريس ,فحاولت الإفادة من التكعيبية التركيبية التحليلية هذه لكنها عمدت الى إبراز عنصر مهم أغفلته التكعيبية هو الحركة .‏
رأى روادها من أمثال مارسل دوماشب وأمبرتو بوكشيوني وبالا وغيرهم أن التكعيبية وإن نجحت في تصوير البعدين والثلاثة أبعاد إلا أنها مازالت استاتيكية المنزع لأنها لم تبرز البعد الحركي في عصر قانونه هو التسارع والديناميكية .فحين أراد دوشامب رسم امرأة تنزل الدرج لم يرسمها تضع قدماً على درجة والى على الدرجة التالية ,بل رسمها في لقطات متوازية متداخلة كأنها في شريط سينمائي متسارع .ونظر لهذا بأن اللقطة الواحدة تعطى صورة جزئية للحدث بينما اللقطات الكلية سوف يترجمها عقل الرائي ويحاول خلق صورة كلية لمشهد لاتنقصه الحركة ,ولذلك فطبيعي هنا أن يرسموا حصاناً بعشرات الأرجل ,ذاك أن الحصان في حال الركض تتحرك سيقانه على نحو متسارع فتتكاثر السيقان وتتقاطع ,هي محاولة من رسم هذه النزعة ليرسم الحركة .وفي المانيفستو الذين ألقوه عام 1910 تكلموا عن الحاجة الملحة الآن هي البحث عن الحقيقة ,وأن كل ماسبق من لوحات تتوسل اللون والشكل وحسب غابت عنها هذه الحقيقة لأنها أغفلت الحركة التي هي جزء أصيل من كل موجودات العالم المعاصر